أنت في الصفحة : مقالات
تأريخ النشر : 2018-11-28 09:30:12
أنت في الصفحة : مقالات
جاري التحميل ...
﴿أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ﴾ الأمْنُ العَقديُّ رأسُ كلِّ أمنٍ دعاء باقر الحلو الأمْنُ:(ضد الخوف والفعل منه: أمِنَ يأْمَنُ أمْناً، والمأمَنُ: موضع الأمن). أما الأمن في الاصطلاح فهو (عدم توقع مكروه في الزمن الآتي وأصله طمأنينة النفس وزوال الخوف) ويظهر من المعنى الاصطلاحي أن الأمن ذو دلالة عامة في دفع المكروه. وقد رسم القرآن الكريم الخطوط العريضة لأنواع الأمن المتعددة، بداية من الوطن الآمن الذي جاء في دعوة إبراهيم (عليه السلام) في قوله تعالى:﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾(البقرة 126) إلى السلوك الآمن الذي يتمثّل بآيات الحكمة والموعظة الحسنة، بقوله تعالى:﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...﴾(النحل 125)، إلى الثقافة الآمنة المتمثلة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله تعالى: ﴿والْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة 71)، كما نظم القرآن الكريم العلاقة الاقتصادية، والعلاقة السياسية بين الأوطان ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِين﴾(البقرة 194)، وهذا نوع من الأمن السياسي، وحرم الربا وهذا نوع من الأمن الاقتصادي بقوله تعالى:﴿يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ (البقرة276). ولعل أهم ما ينبغي أن يُسلط عليه الضوء من أنواع الأمن في وقتنا الحاضر الأمن العقدي الذي يمكننا أن نعدّه رأس كل أمن؛ إذ إن البناء التحتي لنشاطات الإنسان كلها يعتمد على العقيدة، وفعاليات الإنسان العملية تنطلق من أُسس فكره واعتقاده، ولهذا نلحظ أن جميع الأنبياء بدأوا بإصلاح الأسس الاعتقادية لأممهم ومحاربة الانحرافات العقدية بداية من الشرك بالله ومرورا بسائر الانحرافات الأخرى. فالقرآن الكريم منهج علمي يساعد الإنسان على بناء ذاته والارتقاء بها في مرضاة الله عز وجل. ولهذا فإنّ علينا أن ننطلق قرآنيًّا لبناء ثقافتنا العقدية بنحو متين على أساس الصحيح من النظرية الإسلامية ليتحقق الأمن على مستوى الحقول المعرفية الأخرى. وهناك عدد من الآيات القرآنية ترشد للأمن العقدي، لعل من أهمها قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) ،وقد سُبقت هذه الآية بتساؤل قرآني (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْن) أجابت عنه الآية الشريفة المذكورة. إن الفهم الظاهري لهذه الآية المباركة يدل على أن الأمن يتحقق بوساطة الإيمان بالله عز وجل فقط، أي اذا عرف الفرد الله تعالى وصدّق به وبما أوجبه عليه ولم يخلط ذلك بظلم والظلم هو الشرك فـ(أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) من الله بحصول الثواب والأمان من العقاب. ولكن من يُمعن النظر وينظر بعين تكاملية إلى الآية وينطلق من الفهم الصحيح للتوحيد يصل إلى فهم أدق ولاسيما حين يستند إلى روايات المعصومين (سلام الله عليهم)، ومن ذلك ما روي عَن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ قَالَ آمَنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ص مِنَ الْوَلَايَةِ لِعَلِيٍّ ع وَلَمْ يَخْلِطُوهَا بِوَلَايَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَهُوَ التَّلَبُّسُ بِالظُّلْمِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة 169-170). فالفهم الصحيح للتوحيد ينبغي أن ينطلق من الساحة العقائدية السليمة التي لا تفصل بينه وبين النبوية والإمامة. أي أن الفرد الموحّد لا يكتفي بعقد القلب على وحدانية الله سبحانه وتعالى بل يمكن استشراف الحالة التوحيدية عنده في استجابته لأوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونواهيه والالتزام بسيرة المعصومين عليهم السلام. ويُبيّن الإمام الصادق عليه السلام في موطن آخر المصداق الأوضح للآمنين، بالتصريح بـ(إمام الآمنين)، حين وجد متلقيا قادرا على استيعاب ما يقوله الإمام عليه السلام، إذ قال عليه السلام: (قَالَ يَا أَبَا مَرْيَمَ هَذِهِ وَاللَّهِ نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ع خَاصَّةً مَا أَلْبَسَ إِيمَانَهُ بِشِرْكٍ وَلَا ظُلْمٍ وَلَا كَذِبٍ وَلَا سَرِقَةٍ وَلَا خِيَانَةٍ، هَذِهِ وَاللَّهِ نَزَلَتْ فِيهِ خَاصَّةً). (تفسير فرات الكوفي134). والمعنى ذاته نجده عند الإمام الباقر عليه السلام بقوله: (يَا أَبَانُ أَنْتُمْ تَقُولُونَ هُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَنَحْنُ نَقُولُ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي [أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ] عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ع لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ وَلَمْ يَعْبُدِ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ ص [الْقِبْلَةَ] وَهُوَ [أَوَّلُ] مَنْ صَدَّقَهُ فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيه). والمتأمل لهاتين الروايتين لا يجد تعارضا أو تناقضا، إذ إن هذا الأسلوب يدخل ضمن الأساليب الخطابية المهمة التي تجعل المتلقي مشاركا في انتاج المعنى. فالإمام في الرواية الأولى صرّح بقضية الولاية بشكل عام أما في الرواية الثانية فذكر المصداق الأوضح لهذه القضية. ويذكر الإمام الصادق هذا المعنى في رواية أخرى، إذ يقول عليه السلام: (إِنَّ عَلِيّاً وَابْنَيْ عَلِيٍّ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْأَمْنِ)، وهذه الروايات وغيرها تعضد ما ذكره المعصومون عليهم السلام، فسيّدتنا الزهراء قالت في خطبتها المشهورة: (ِوَطَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً لِلْفُرْقَة)، وهذا يعني أن الإمامة نظام للدين، أي أن الإمامة بها تنتظم الأصول والمعتقدات، وبها يتحقق الأمن، ولقد بُرهن على هذا في علم الكلام، حيث ذُكر أن الأصول الخمسة مترابطة يتمم بعضها بعضًا، ولا يمكن التفكيك بينها في مجال الاعتقاد، فإن العقل يحكم أن هذه الأصول أسرة واحدة وحلقة واحدة لا يمكن تفكيكها. أما أمير الآمنين عليه السلام فيعد فقدان الدين فقدانا للأمن، إذ يقول عليه السلام: ((مَنِ اسْتَحْكَمَت لِي فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ، احْتَمَلْتُهُ عَلَيْهَا، وَاغْتَفَرْتُ فَقْدَ مَا سِوَاهَا، وَلَا أَغْتَفِرُ فَقْدَ عَقْلٍ وَلَا دِينٍ؛ لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الدِّينِ مُفَارَقَةُ الْأَمْنِ...) (الكافي 1/62-)63. وهنا أود الإشارة إلى قضية واحدة وأترك الباقي إلى القارئ الكريم، وهي الوحدة في كلام المعصومين التي تتجلى هنا بين قول الزهراء وقول أمير المؤمنين عليهما السلام، وهي أن نظام الدين وأمنه يتحقق في طاعة أهل البيت عليهم السلام كما ذكرت الزهراء عليها السلام، ومفارقة الدين مفارقة الأمن كما ذكر أمير المؤمنين عليه السلام. والجامع بين الأمرين هو الإمام إذ إن الثروة الروائية التي وردت عنهم تحمل نظامًا كاملًا لإدارة الحياة بكامل تفاصيلها وأنه لا يمكن أن ينتظم العمل ولا الأداء إلا مع الاعتقاد بالإمامة ومرجعية تراث أهل البيت. ومما سبق يمكن القول إن الأمن العقدي يمثل المحور الفعال في المجتمع إذ عندما يتحقق الأمن العقدي يتبعه الاستقرار الفكري والاجتماعي والاقتصادي للمجتمع فهو يملك الطريقة الآمنة التي تحقق غايات المجتمع التي يسعى الى تحقيقها كل فرد فيه.
ملاحظة: لطفا التعليق يخضع لمراجعة الادارة قبل النشر
جاري التحميل ...