أنت في الصفحة : مقالات

مقالات
الِانتماءُ في عُرفِ القُرآنِ الكريمِ
الِانتماءُ في عُرفِ القُرآنِ الكريمِ
الكاتب : أحمد سالم إسماعيل

تأريخ النشر : 2021-07-06 14:05:11

يقول جلّ وعلا عن ابن النّبيّ نوحٍ (عليه السّلامُ): ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [سورة هود: 46]، ويقول عزّ وجلّ عن لسان النّبيّ إبراهيم (عليه وآله السّلام): ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [سورة إبراهيم: 36]. من الآيتين الكريمتين نعرفُ أنّ الموازين الّتي يتعامل بها ربُّ العزّة والجلال فيما يتعلّق بالانتماء والعلاقة بين البشر- هي ليست كما اطّرد في مُجتمعاتنا وتعارف عند النّاس. ومن المعروف أنّهُ لو كان أحدٌ مُؤمنًا وصالحَ السّيرة، وكان أخوهُ أو ابنُ عمّه أو أحدُ أرحامه طالحًا، فإنّ هذا الأمر قد لا يقطع العلاقة بينهما، إلّا أنْ يكون هذا المؤمنُ في مأمنٍ من تقاليد العشائر والعادات الّتي قد تفرضُ حُقوقًا لذلك الطّالح على هذا المؤمن! وقد أورد القُرآن الحكيم في هذا الجانب أمثلةً واضحةً، كما في الآيتين الماضيتين، فعندما ينفي انتماء ابن نوح إلى أهل نوح (عليه السّلامُ)، نعلم أنّ موازينَ الانتماء بالرّحِم تنتفي عند اصطدامها مع موازين الانتماء بالعقيدة. وكذا الآية الثّانية، يقولُ النّبيُّ إبراهيمُ (عليه وآله السّلامُ)، ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾، يعني: إنّ أيّ شخص يتّبعني فهو منّي ولو كان عبدًا حبشيًّا أسودًا فقيرًا. من ذلك يُمكنُ القولُ: إنّ الانتماءَ الحقيقيّ هو الانتماءُ العقائديّ، ولا تحُدِّدُ الولادة المادّيّة انتماء الإنسان، بل ولادته المعنويّة هي المُحدِّدُ لذلك، فالإنسان الّذي يعتنق الإسلام ويؤمن بالله ورسوله يصبح وكأنّه مولودٌ جديدٌ، وقد جاءته حياةٌ جديدةٌ، فيبدأ حياته في ضوء العقيدة الصّحيحة. وممّا يؤيّدُ ذلك ما اشتهر من قول رسول الله (صلّى اللهُ عليه وآله): «يَا سَلْمَانُ أَنْتَ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ». [الآحاد والمثاني: ح2707]. وقد نهى الأئمّةُ (عليهم السّلام) أنْ يُقالَ عن سلمان إنّهُ (فارسيّ)، بل يُقال (سلمان المُحمّدي)، فعن «الحُسين بن صهيب عن أبي جعفرٍ [الباقر] (عليه السّلام): قال: ذُكِرَ عندَهُ سلمانُ الفارسيُّ فقال أبو جعفرٍ (عليه السّلام): مَهْ، لا تقولوا سلمانُ الفارسيّ، ولكنْ قولوا سلمانُ المُحمّديُّ، ذلك رجلٌ منّا أهلَ البيتِ» [رجال الكشيّ: 18]. وقال الإمامُ الصّادقُ (عليه السّلامُ) لِرجل سألَهُ عن سلمانَ: «لا تَقُلْ الفارسيُّ، ولكنْ قُلْ سلمانُ المحمديُّ». [أمالي الشيخ الطوسي: 133]. نتيجةٌ ممّا مضى: إنّ كلّ مَنِ اتّبعَ النّبيَّ (صلّى الله عليه وآله) -اتّباعًا صحيحًا مع التّسليم له- فإنّهُ يكون من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويكون انتماؤه لرسول الله باتّباعه إيّاهُ أقوى من انتمائه لعشيرته بانتسابه إليها، ولعلّ ممّا يدلّ على ذلك قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: «يا عليُّ، أنا وأنت أَبَوَا هذِهِ الأُمّةِ». [أمالي الشيخ الطوسي: 755]. وفي الجانب الآخر: كُلّ مَن خالف النّبيّ (صلّى الله عليه وآله)، أو ادّعى أنّه اتّبعه لكنّه لم يتّبعه في الحقيقة، فهو ليس من النّبيّ، ولا ينتمي إليه، ولو كان أقرب النّاس إليه من حيث النّسب والرّحِم، ولَيسَتِ العبرةُ بالأنسابِ، بل العبرةُ بالتّقوى والعمل الصّالح، فعن الإمام زين العابدين (عليه السّلامُ): «خَلَقَ اللهُ الجنّةَ لِمَنْ أطاعَهُ وأحسَنَ ولو كانَ حَبَشيًّا، وخَلَقَ النّارَ لِمَنْ عَصاهُ ولو كانَ سَيِّدًا قَرَشِيًّا، أَمَا سَمِعْتَ قولَهُ تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [سورة المؤمنون: 101]؟! واللهِ لا يَنفَعُكَ غَدًا إلّا تَقدِمَةٌ تُقدِّمُها مِن عَمَلٍ صالِحٍ». [مناقب آل أبي طالب (عليهم السّلامُ): 755]. إذن: أقربُ النّاسِ إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو مَنِ اتَّبَعَهُ حَقَّ اتِّباعٍ، بقطع النّظر عن قُربه بالنّسب، وهذا ما أوضحه القُرآن الكريم إذ قال: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ [سورة آل عمران: 68]، وقد بيّن الشيخ الطريحيّ (ت1086هـ) معنى (أَوْلى النّاس) فقال: «أحقُّهُم بِهِ وأقربَهُم مِنهُ» [تفسير غريب القرآن: 78]. إذن: تَعارَفَ في القُرآن الكريم أنّ الانتماءَ بالعقيدةِ مُقدّمٌ على الانتماءِ بالنَّسَبِ، ويُمكنُ القولُ: إنّ الانتماءَ في عُرف القُرآن الكريم يُحدَّدُ بالاتّباعِ، والاتّباعُ يقتضي موافقةَ العقيدةِ، ولا اعتدادَ بالنَّسَبِ؛ لأنَّ أولى النّاسِ بالنّبيِّ هُمْ أَتباعُهُ وأبعدَ النّاسِ عَنهُ مَن لم يتّبِعْهُ وإنْ كانَ مِنْ أولادِهِ كما هو الحالُ مع ابن النّبيّ نوحٍ (عليه السّلام)، فالميزانُ في ذلك هو: طاعةُ اللهِ واتّباعُ رسولِهِ.
تعليقات القرآء (0 تعليق)
لاتوجد اي تعليقات حاليا.

ملاحظة: لطفا التعليق يخضع لمراجعة الادارة قبل النشر

جاري التحميل ...

حدث خطأ بالاتصال !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...

الِانتماءُ في عُرفِ القُرآنِ الكريمِ
Image 1
تاريخ النشر 2021-07-06

يقول جلّ وعلا عن ابن النّبيّ نوحٍ (عليه السّلامُ): ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [سورة هود: 46]، ويقول عزّ وجلّ عن لسان النّبيّ إبراهيم (عليه وآله السّلام): ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [سورة إبراهيم: 36]. من الآيتين الكريمتين نعرفُ أنّ الموازين الّتي يتعامل بها ربُّ العزّة والجلال فيما يتعلّق بالانتماء والعلاقة بين البشر- هي ليست كما اطّرد في مُجتمعاتنا وتعارف عند النّاس. ومن المعروف أنّهُ لو كان أحدٌ مُؤمنًا وصالحَ السّيرة، وكان أخوهُ أو ابنُ عمّه أو أحدُ أرحامه طالحًا، فإنّ هذا الأمر قد لا يقطع العلاقة بينهما، إلّا أنْ يكون هذا المؤمنُ في مأمنٍ من تقاليد العشائر والعادات الّتي قد تفرضُ حُقوقًا لذلك الطّالح على هذا المؤمن! وقد أورد القُرآن الحكيم في هذا الجانب أمثلةً واضحةً، كما في الآيتين الماضيتين، فعندما ينفي انتماء ابن نوح إلى أهل نوح (عليه السّلامُ)، نعلم أنّ موازينَ الانتماء بالرّحِم تنتفي عند اصطدامها مع موازين الانتماء بالعقيدة. وكذا الآية الثّانية، يقولُ النّبيُّ إبراهيمُ (عليه وآله السّلامُ)، ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾، يعني: إنّ أيّ شخص يتّبعني فهو منّي ولو كان عبدًا حبشيًّا أسودًا فقيرًا. من ذلك يُمكنُ القولُ: إنّ الانتماءَ الحقيقيّ هو الانتماءُ العقائديّ، ولا تحُدِّدُ الولادة المادّيّة انتماء الإنسان، بل ولادته المعنويّة هي المُحدِّدُ لذلك، فالإنسان الّذي يعتنق الإسلام ويؤمن بالله ورسوله يصبح وكأنّه مولودٌ جديدٌ، وقد جاءته حياةٌ جديدةٌ، فيبدأ حياته في ضوء العقيدة الصّحيحة. وممّا يؤيّدُ ذلك ما اشتهر من قول رسول الله (صلّى اللهُ عليه وآله): «يَا سَلْمَانُ أَنْتَ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ». [الآحاد والمثاني: ح2707]. وقد نهى الأئمّةُ (عليهم السّلام) أنْ يُقالَ عن سلمان إنّهُ (فارسيّ)، بل يُقال (سلمان المُحمّدي)، فعن «الحُسين بن صهيب عن أبي جعفرٍ [الباقر] (عليه السّلام): قال: ذُكِرَ عندَهُ سلمانُ الفارسيُّ فقال أبو جعفرٍ (عليه السّلام): مَهْ، لا تقولوا سلمانُ الفارسيّ، ولكنْ قولوا سلمانُ المُحمّديُّ، ذلك رجلٌ منّا أهلَ البيتِ» [رجال الكشيّ: 18]. وقال الإمامُ الصّادقُ (عليه السّلامُ) لِرجل سألَهُ عن سلمانَ: «لا تَقُلْ الفارسيُّ، ولكنْ قُلْ سلمانُ المحمديُّ». [أمالي الشيخ الطوسي: 133]. نتيجةٌ ممّا مضى: إنّ كلّ مَنِ اتّبعَ النّبيَّ (صلّى الله عليه وآله) -اتّباعًا صحيحًا مع التّسليم له- فإنّهُ يكون من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويكون انتماؤه لرسول الله باتّباعه إيّاهُ أقوى من انتمائه لعشيرته بانتسابه إليها، ولعلّ ممّا يدلّ على ذلك قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: «يا عليُّ، أنا وأنت أَبَوَا هذِهِ الأُمّةِ». [أمالي الشيخ الطوسي: 755]. وفي الجانب الآخر: كُلّ مَن خالف النّبيّ (صلّى الله عليه وآله)، أو ادّعى أنّه اتّبعه لكنّه لم يتّبعه في الحقيقة، فهو ليس من النّبيّ، ولا ينتمي إليه، ولو كان أقرب النّاس إليه من حيث النّسب والرّحِم، ولَيسَتِ العبرةُ بالأنسابِ، بل العبرةُ بالتّقوى والعمل الصّالح، فعن الإمام زين العابدين (عليه السّلامُ): «خَلَقَ اللهُ الجنّةَ لِمَنْ أطاعَهُ وأحسَنَ ولو كانَ حَبَشيًّا، وخَلَقَ النّارَ لِمَنْ عَصاهُ ولو كانَ سَيِّدًا قَرَشِيًّا، أَمَا سَمِعْتَ قولَهُ تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [سورة المؤمنون: 101]؟! واللهِ لا يَنفَعُكَ غَدًا إلّا تَقدِمَةٌ تُقدِّمُها مِن عَمَلٍ صالِحٍ». [مناقب آل أبي طالب (عليهم السّلامُ): 755]. إذن: أقربُ النّاسِ إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو مَنِ اتَّبَعَهُ حَقَّ اتِّباعٍ، بقطع النّظر عن قُربه بالنّسب، وهذا ما أوضحه القُرآن الكريم إذ قال: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ [سورة آل عمران: 68]، وقد بيّن الشيخ الطريحيّ (ت1086هـ) معنى (أَوْلى النّاس) فقال: «أحقُّهُم بِهِ وأقربَهُم مِنهُ» [تفسير غريب القرآن: 78]. إذن: تَعارَفَ في القُرآن الكريم أنّ الانتماءَ بالعقيدةِ مُقدّمٌ على الانتماءِ بالنَّسَبِ، ويُمكنُ القولُ: إنّ الانتماءَ في عُرف القُرآن الكريم يُحدَّدُ بالاتّباعِ، والاتّباعُ يقتضي موافقةَ العقيدةِ، ولا اعتدادَ بالنَّسَبِ؛ لأنَّ أولى النّاسِ بالنّبيِّ هُمْ أَتباعُهُ وأبعدَ النّاسِ عَنهُ مَن لم يتّبِعْهُ وإنْ كانَ مِنْ أولادِهِ كما هو الحالُ مع ابن النّبيّ نوحٍ (عليه السّلام)، فالميزانُ في ذلك هو: طاعةُ اللهِ واتّباعُ رسولِهِ.

لا توجد اي صور متوفرة حاليا.