أنت في الصفحة : بحوث
تأريخ النشر : 2019-03-01 17:20:46
أنت في الصفحة : بحوث
جاري التحميل ...
الإعجازُ العلميُّ في القُرْآنِ، حُدودُهُ وَأَهَمِيَّتُهُ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النورِ، مِنَ الضَّلالِ إلى الهُدى، يُخْرِجُ اللهُ الكريمُ الرَّحيمُ عبادَهُ رَحْمَةً بِهِمْ؛ لأنْ لا يحرِمَهُمْ مِنَ الوُصولِ إلى كمالِهِمُ الذي لأجلِهِ خَلَقَهُمْ. القُرْآنُ الذي أَنْزَلَهُ اللهُ الرَّحيمُ هاديًا للتي هيَ أقْوَمُ، يُبالِغُ البعضُ في مسألةِ إعجازِهِ العلميِّ الذي لا يمكنُ إنكارُهُ مبالغَةً قد تستَتْبِعُ عَواقِبَ لا تُحْمَدُ؛ فربما كانَ بعضُ ما يُتَصَوَّرُ إعجازًا علميَّا أمرًا يَسْتَنِدُ إلى فرضياتٍ أو نظرياتٍ غيرِ قطعيةٍ، فكيفَ إذا جاءت نظرياتٌ تُبْطِلُها؟ إنَّ المبالغةَ في الإعجازِ العلميِّ عاقبةُ جَهْلِ المبالِغِ بالغرضِ مِنْ نُزولِهِ وانشِغالِهِ عَنْهُ وكأنَّهُ يُريدُ مِنَ القرآنِ أنْ يَكُونَ شامِلًا لِكُلِّ العُلومِ كأنهُ كتابُ عِلْمٍ، فَهَلْ هُوَ فِعْلًا كذلكَ؟ إنَّهُ لَواضِحٌ لِلْمُلْتَفِتِ لِجُمْلَةٍ مِنْ آياتِ الكتابِ العزيزِ، والمُنْصِتِ لكلماتِ الأعلامِ في هذا الشأنِ أنَّ القرآنَ كتابُ هِدايةٍ وأنَّ الهِدايَةَ هِيَ هَدَفُ نُزولِهِ. قالَ تعالى:(إِنَّ هذا القُرْآنَ يَهْدِي للتي هي أَقْوَمُ) (الإسراء 9) وقالَ أيضًا:(قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) (المائدة 15-16)، وَيَقُولُ عَزَّ شَأْنُهُ في الآيَةِ الثانِيَةِ مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ:(ذلك الكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ هُدًى لِلْمُتَّقينَ) وَها هِيَ سُورَةُ لُقْمانَ يَفْتَتِحُها سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ:(ألم تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنينَ) لقمان (1-2). يَقُولُ العَلَّامَةُ الطباطبائيُّ في ميزانِهِ:( إلى غير ذلك من الآيات التي أفاد فيها: أن الغاية من كتابه وكلامه هداية العباد). مِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ أنَّ القُرآنَ الحكيمَ كِتابُ هِدايَةٍ، وَلازِمُ ذلكَ أنْ يَكُونَ كُلُّ ما فيهِ مِنَ المعارفِ مُوصِلًا إلى غَرَضِهِ والغايةِ مِنْهُ، وهذا يعني أنَّ الإعجازَ العلميَّ لَيْسَ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ لِتَتِمَّ المُبالَغَةُ فيهِ، بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسائِلِ الكتابِ العَزيزِ لِتَحْقيقِ هذا الغرَضِ. فَكَيْفَ ذلكَ؟ إنَّ الهِدايةَ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وهي غرضُ نزولِ القرآنِ كما عَرَفْتَ، يُحَقِّقُها الإعجازُ العِلْمِيُّ وَيُساهِمُ في الإيصالِ إليها مُساهَمَةً مُؤَثِّرَةً إذا كانتِ الدِّراساتُ فيهِ قائِمَةً على الرَّصانَةِ والاحتياطِ، وإذا كانَ دارِسُ آياتِ الإعجازِ العلميِّ يَدْرُسُها بوصفها آياتِ هِدايةٍ، لا بوصفها آياتٍ تُشِيرُ إلى الحقائقِ العلميَّةِ لِمُجَرَّدِ الإشارَةِ إليها فَيُصَوِّرُ أنَّ اللهَ تعالى قد أنزلَ للناسِ كتابًا يُمكنُ أنْ يكونَ منهلًا للعُلَماءِ في شَتَّى العُلومِ؛ فهذه النظرةُ مخالِفَةٌ لِمُرادِ القُرْآنِ. أَمَّا دِراسَتُها كآياتٍ هادِيَةٍ، فالتَّدَبُّرُ يُوصِلُ إلى ثَمَرَتَيْنِ مُهِمَّتَيْنِ، وَلَسْتُ هُنا أدَّعي حَصْرَ ثِمارِ الإعجازِ العِلْمِيِّ بِهِما وَأَنَّى يَكونُ لي ذلك؟ وهاتانِ الثَّمَرَتانِ هُما: أَوَّلًا: إِنَّ إِثْباتَ وُجودِ الإعجازِ العلميِّ في القُرْآنِ سَيَجْعَلُهُ واحدًا مِنَ الأدِلَّةِ على كَوْنِ القُرْآنِ العَظِيمِ كَلامًا إلهيًّا ولازِمُ ذلكَ بِطَبيعَةِ الحالِ نفيُ بَشَرِيَّتِهِ؛ إذ كيفَ يَسَعُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليهِ وَآلِهِ وَهُوَ رَجُلٌ عَرَبِيٌّ لَمْ تَرَهُ العَرَبُ مُتَّكِئًا على قِراءَةٍ أو كتابَةٍ أنْ يَأتيَ مِنْ عندِ نفسِهِ، مَهْما بَلَغَ بِهِ النُّبُوغُ العَقْلِيُّ، بِقُرْآنٍ فيهِ حقائِقُ علميَّةٌ تَسْبِقُ عَصْرَ اكتِشافِ كَثِيرٍ مِنها بأكثرَ مِنْ ألفِ سَنَةٍ، وَهذا يعني بالضَّرورةِ أنَّ الإعجازَ العلميَّ سَيَسَعُنا إضافَتُهُ إلى أدِلَّةِ النُّبُوَّةِ الخاصَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَآلِهِ؛ فَهُوَ يَنْفي وَهْمَ مَنْ يَتَوَهَّمُ كَوْنَ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَآلِهِ نُبُوغًا عَقْلِيًّا، فَإذا ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ ثَبَتَتْ بالضَّرورةِ نُبُوَّةُ مَنْ أوصى صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ بالإيمانِ بِنُبُوَّتِهِمْ، وَهذا بالنتيجةِ يُثْبِتُ الوَحْيَ. ثانيًا: إنَّ الإعجازَ العلميَّ ليسَ بِبَعيدٍ كما هُوَ الظَّنُّ والاحتِمالُ عنْ قَوْلِهِ تعالى(سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ) فُصِّلَتْ 53 والحقائقُ بِبُعْدَيها الآفاقيِّ والأنفُسيِّ هاديةٌ إليهِ تعالى؛ فهي دالَّةٌ على وجودِهِ تعالى وعلى حِكمتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وكُلَّما زادَ تَأَمُّلُ العبدِ فيها زادَ تَوَجُّهُهُ إليهِ سُبْحانَهُ؛ ألا ترى أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَثْنَى على مَنْ يَقْرِنُ العبادةَ بالتَّفَكُّرِ في السّماواتِ والأرضِ لِمَا لهُ مِنَ الأهميةِ في إذعانِ العبدِ بِحِكْمَةِ رَبِّهِ. قالَ سُبْحانَهُ:(الذينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ والأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عذابَ النارِ). وها نَحْنُ نَشاهِدُ اليَوْمَ ارتِباطَ جُمْلَةٍ مِنْ آياتِ الإعجازِ العلميِّ بالسّماواتِ والأرْضِ، وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَذْكُرُ الحقائِقَ العلميّةَ وَيَقْرِنُهَا بالإشارَةِ إليهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ في إشارَةٍ مِنْهُ تعالى إلى عِبادِهِ أنْ يَتَفَكَّروا في مَضامينِ هذا الإعجازِ وَيُخْلِصُوا التَّوَجُهَ إليهِ. قالَ تعالى:(وَتَرى الجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إنَّهُ خبيرٌ بِما تَفْعَلونَ) النمل 88. وَلَكَ أنْ تَتَأمَّلَ في قَوْلِهِ تعالى:(صُنْعَ اللهِ...) وَما تَلاهُ؛ فَقَوْلُهُ جَلَّ صُنْعُهُ:(صُنْعَ اللهِ الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَعْوَةً مِنْهُ تعالى إلى كُلِّ مَنْ سَيُدْرِكُ إعجازَ هذه الآيةِ العلميَّ وَإِشارَتَها إلى حَرَكَةِ الأرضِ إلى العَوْدَةِ إليهِ جَلَّ صُنْعُهُ. مِمَّا تَقَدَّمَ لَهُ البيانُ تَعْرِفُ أَيُّها العزيزُ أنَّ آياتِ الإعجازِ العلميِّ في القُرْآنِ تُؤَدِّي دَوْرًا فاعِلًا في هِدايَةِ العِبادِ إلى اللهِ تعالى ذِكْرُهُ؛ فالافادةُ مِنها مُمْكِنَةٌ في أَبوابٍ مُهِمَةٍ في العقائدِ، وَهِيَ مُؤَثِّرَةٌ في تَعْبيدِ طَريقِ التَّفَكُّرِ لِلْعابِدينَ. انْظُرْ كَمْ هُوَ مُهِمٌّ أنْ لا يُبالِغَ الدَّارِسُ في مَسْألةِ الإعجازِ العلميِّ في القُرْآنِ، وَكَمْ هُوَ ضَرُورِيٌّ أَنْ نُدْرِكَ أَنَّهُ ليسَ مَقْصودًا لِنَفسِهِ فالقُرْآنُ لَهُ غَرَضٌ هُوَ الهِدايَةُ وَجَميعُ مَعارِفِهِ غيرُ خارجةٍ عن الإيصالِ إليهِ.
ملاحظة: لطفا التعليق يخضع لمراجعة الادارة قبل النشر
جاري التحميل ...